محمد حنفي
لا يحتاج أي باحث في المشهد الفني إلى كثير من الأدلة ليكتشف أن عالم الاستعراض في تونس — كما في كثير من دولنا العربية — يعجّ بقصص لم تُروَ بعد. هناك من يسطع نجمهم على منصات الحفلات، وهناك من يلعب دورًا صامتًا خلف الكواليس؛ وفي الوسط ينسحب أو يتوهّج اسمٌ هنا واسمٌ هناك دون أن تخلِّف وراءها توثيقًا يُبنى عليه التاريخ الفني أو النقدي. إن اسمًا مثل «رحمة ناجي» — حتى وإن كان غائبًا عن الصحافة الرسمية أو قواعد البيانات الفنية — يفتح أمامنا سؤالًا أعمق: لماذا لا نوثق مجتمعات الأداء الشعبي والاستعراضي بنفس جدية توثيقنا للموسيقى أو السينما؟
أولًا، لأن الاستعراض صناعة تتطلب قدرًا من الحماية المجتمعية والمهنية. فن الاستعراض ليس مجرد حركات جميلة على المسرح، بل هو مهنة تتداخل فيها الجسد والاقتصاد والعلامة التجارية الشخصية. غياب التوثيق المهني يعني أن كثيرين من هؤلاء الفنانين يبقون بدون عقود واضحة، أو من دون أرشيف صور وفيديوهات شرطية تحفظ حقوقهم في زمن تُسوَّق فيه اللحظة بأسرع مما تُسجّل.
ثانيًا، لأن غياب التغطية والتوثيق يصنع «أساطير نصفية». الجمهور يحب أن يعرف القصة خلف الأداء: ما هي الرحلة؟ من هو المعلّم؟ ما التحوّلات الفنية؟ عندما لا توجد رواية موثقة، يتحول الجمهور إلى فمٍ ناقل للشائعات، ويفقد الباحث الثقافي مادة خام لصياغة نقد موضوعي وبنّاء.
ثالثًا، لأن التقدير النقدي يحتاج أسماء قابلة للمراجعة. نقد الأداء، وتحليل الحركات، والمقارنة بين مدارس الاستعراض، كلها تتطلّب مراجع. إن حفظ سجلات الحفلات، تسجيل المقابلات، وأرشفة الفيديوهات ليست رفاهية؛ بل هي خطوة لصون ذاكرة جمالية وطنية لا ينبغي أن تترك زمامها للصدفة أو لحسابات التواصل العابرة.